فصل: تفسير الآيات رقم (71- 78)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً‏}‏ استفهام تقرير ولذلك رفع‏.‏ ‏{‏فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً‏}‏ عطف على ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ إذ لو نصب جواباً لدل على نفي الاخضرار كما في قولك‏:‏ ألم تر أني جئتك فتكرمني، والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صيغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ‏}‏ يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق‏.‏ ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ بالتدابير الظاهرة والباطنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني‏}‏ في ذاته عن كل شيء‏.‏ ‏{‏الحميد‏}‏ المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض‏}‏ جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم‏.‏ ‏{‏والفلك‏}‏ عطف على ‏{‏مَا‏}‏ أو على اسم ‏{‏أَنَّ‏}‏، وقرئ بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ‏}‏ حال منها أو خبر‏.‏ ‏{‏وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض‏}‏ من أن تقع أو كراهة بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة، وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم أنواع المضار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ‏}‏ بعد أن كنتم جماداً عناصر ونطفاً‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ إذا جاء أجلكم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏ لجحود لنعم الله مع ظهورها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏لِكُلّ أُمَّةٍ‏}‏ أهل دين‏.‏ ‏{‏جَعَلْنَا مَنسَكًا‏}‏ متعبداً أو شريعة تعبدوا بها، وقيل عيدا‏.‏ ‏{‏هُمْ نَاسِكُوهُ‏}‏ ينسكونه‏.‏ ‏{‏فَلاَ ينازعنك‏}‏ سائر أرباب الملل‏.‏ ‏{‏فِي الأمر‏}‏ في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد، أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع، وقيل المراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم، فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء، أو عن منازعتهم كقولك‏:‏ لا يضار بك زيد، وهذا إنما يجوز في أفعال المبالغة للتلازم، وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين‏:‏ ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله، وقرئ ‏{‏فَلاَ ينزعنك‏}‏ على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته فنزعته إذا غلبته‏.‏ ‏{‏وادع إلى رَبّكَ‏}‏ إلى توحيده وعبادته‏.‏ ‏{‏إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ طريق إلى الحق سوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن جادلوك‏}‏ وقد ظهر الحق ولزمت الحجة‏.‏ ‏{‏فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من المجادلة الباطلة وغيرها فيجازيكم عليها، وهو وعيد فيه رفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب‏.‏ ‏{‏يَوْمَ القيامة‏}‏ كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات‏.‏ ‏{‏فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ من أمر الدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض‏}‏ فلا يخفى عليه شيء‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلك فِي كتاب‏}‏ هو اللوح كتبه فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له‏.‏ ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ إن الإِحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ، أو الحكم بينكم‏.‏ ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 78‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا‏}‏ حجة تدل على جواز عبادته‏.‏ ‏{‏وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله‏.‏ ‏{‏وَمَا للظالمين‏}‏ وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم‏.‏ ‏{‏مِن نَّصِيرٍ‏}‏ يقرر مذهبهم أو يدفع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ من القرآن‏.‏ ‏{‏بينات‏}‏ واضحات الدلالة على العقائد الحقية والأحكام الإِلهية‏.‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر‏}‏ الانكار لفرط نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليداً، وهذا منتهى الجهالة وللإِشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر ‏{‏يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ يثبون ويبطشون بهم‏.‏ ‏{‏قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم‏}‏ من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم، أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم‏.‏ ‏{‏النار‏}‏ أي هو النار كأنه جواب سائل قال‏:‏ ما هو، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلاً من شر فتكون الجملة استئنافاً كما إذا رفعت خبراً أو حالاً منها‏.‏ ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ النار‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ‏}‏ بين لكم حال مستغربة أو قصة رائعة ولذلك سماها مثلاً، أو جعل لله مثل أي مثل في استحقاق العبادة‏.‏ ‏{‏فاستمعوا لَهُ‏}‏ للمثل أو لشأنه استماع تدبر وتفكر‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني الأصنام، وقرأ يعقوب بالياء وقرئ مبنياً للمفعول والراجع إلى الموصول محذوف على الأولين‏.‏ ‏{‏لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً‏}‏ لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن ‏{‏لَنْ‏}‏ بما فيها من تأكيد النفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه، و‏{‏الذباب‏}‏ من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة وذبان‏.‏ ‏{‏وَلَوِ اجتمعوا لَهُ‏}‏ أي للخلق هو بجوابه المقدر في موضع حال جيء به للمبالغة، أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين‏.‏ ‏{‏وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‏}‏ جهلهم غاية التجهيل بأن أشركوا إلهاً قدر على المقدورات كلها وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها تماثيل هي أعجز الأشياء، وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له، بل لا تقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنقاذ ما يختطفه من عندها‏.‏ قيل كانوا يطلونها بالطيب والعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله‏.‏ ‏{‏ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ عابد الصنم ومعبوده، أو الذباب يطلب ما يسلب عن الصنم من الطيب والصنم يطلب الذباب منه السلب، أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف بدرجات‏.‏

‏{‏مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لَقَوِىٌّ‏}‏ على خلق الممكنات بأسرها‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها‏.‏

‏{‏الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً‏}‏ يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الناس‏}‏ يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغون إليهم ما نزل عليهم، كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها بين أن له عباداً مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والإِقتداء بهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن سواه من الموجودات تقريراً للنبوة وتزييفاً لقولهم ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ والملائكة بنات الله تعالى، ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ مدرك للأشياء كلها‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ عالم بواقعها ومترقبها‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ وإليه ترجع الأمور كلها لأنه مالكها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اركعوا واسجدوا‏}‏ في صلاتكم، أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإِسلام، أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها، أو اخضعوا لله وخروا له سجداً‏.‏ ‏{‏وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ‏}‏ بسائر ما تعبدكم به‏.‏ ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ وتحروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم، والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولقوله عليه الصلاة والسلام «فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرؤها» ‏{‏وجاهدوا فِى الله‏}‏ أي لله ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ‏{‏حَقَّ جهاده‏}‏ أي جهاداً فيه حقاً خالصاً لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك‏:‏ هو حق عالم، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعاً أو لأنه مختص بالله من حيث إنه مفعول لوجه الله تعالى ومن أجله‏.‏ ‏{‏هُوَ اجتباكم‏}‏ اختاركم لدينه ولنصرته، وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ‏}‏ أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه، أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به من حيث شق عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم» وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجاً بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد ‏{‏مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم‏}‏ منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي‏:‏ وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، أو على الإِغراء أو على الاختصاص، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم‏.‏

‏{‏هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل القرآن في الكتب المتقدمة‏.‏ ‏{‏وَفِى هذا‏}‏ وفي القرآن، والضمير لله تعالى ويدل عليه أنه قرئ «الله سماكم»، أو ل ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ‏}‏ وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين‏.‏ ‏{‏لِيَكُونَ الرسول‏}‏ يوم القيامة متعلق بسماكم‏.‏ ‏{‏شَهِيداً عَلَيْكُمْ‏}‏ بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتماداً على عصمته، أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى‏.‏ ‏{‏وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ بتبليغ الرسل إليهم‏.‏ ‏{‏فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة‏}‏ فتقربوا إلى الله تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف‏.‏ ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ وثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإِعانة والنصرة إلا منه‏.‏ ‏{‏هُوَ مولاكم‏}‏ ناصركم ومتولي أموركم ‏{‏فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏ هو إذ لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة، بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة‏.‏ عن النبي عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي ‏"‏‏.‏

سورة المؤمنون

مكية وهي مائة وتسع عشرة آية عند البصريين وثماني عشرة عند الكوفيين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ قد فازوا بأمانيهم وقد تثبت المتوقع كما أن لما تنفيه وتدل على ثباته إذا دخلت على الماضي، ولذلك تقربه من الحال ولما كان المؤمنون متوقعين ذلك من فضل الله صدرت بها بشارتهم، وقرأ ورش عن نافع ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها، وقرئ «أفلحوا» على لغة‏:‏ أكلوني البراغيث، أو على الإِبهام والتفسير، و‏{‏أَفْلَحَ‏}‏ بالضم اجتزاء بالضمة عن الواو و«أَفْلَحَ» على البناء للمفعول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون‏}‏ خائفون من الله سبحانه وتعالى متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم‏.‏ روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء، فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده وأنه رأى رجلاً يعبث بلحيته فقال‏:‏ «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه»

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو‏}‏ عما لا يعنيهم من قول أو فعل‏.‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ لما بهم من الجد ما شغلهم عنه، وهو أبلغ من الذين لا يلهون من وجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير، والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإِعراض مقام الترك ليدل على بعدهم عنه رأساً مباشرة وتسبباً وميلاً وحضوراً، فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه وكذلك قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ للزكواة فاعلون‏}‏ وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة ليدل على أنهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنية والمالية والتجنب عن المحرمات وسائر ما توجب المروءة اجتنابه، والزكاة تقع على المعنى والعين والمواد الأول لأن الفاعل فاعل الحدث لا المحل الذي هو موقعه أو الثاني على تقدير مضاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون‏}‏ لا يبذلونها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ زوجاتهم أو سرياتهم، و‏{‏على‏}‏ صلة ل ‏{‏حافظون‏}‏ من قولك احفظ على عنان فرسي، أو حال أي حافظوها في كافة الأحوال إلا في حال التزوج أو التسري، أو بفعل دل عليه غير ملومين وإنما قال‏:‏ ما إجراء للماليك مجرى غير العقلاء إذ الملك أصل شائع فيه وإفراد ذلك بعدم تعميم قوله‏:‏ ‏{‏والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ‏}‏ لأن المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس وأعظمها خطراً‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ الضمير لحافظون، أو لمن دل عليه الاستثناء أي فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 16‏]‏

‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك‏}‏ المستثنى‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون‏}‏ الكاملون في العدوان‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ‏}‏ لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق‏.‏ ‏{‏راعون‏}‏ قائمون بحفظها وإصلاحها، وقرأ ابن كثير هنا وفي «المعارج» ‏{‏لأمانتهم‏}‏ على الإِفراد ولأمن الإِلباس أو لأنها في الأصل مصدر‏.‏

‏{‏والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون‏}‏ يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها، ولفظ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعه غير حمزة والكسائي، وليس ذلك تكريراً لما وصفهم به أولاً فإن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها، وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ الجامعون لهذه الصفات‏.‏ ‏{‏هُمُ الوارثون‏}‏ الأحقاء بأن يسموا وُرَّاثاً دون غيرهم‏.‏

‏{‏الذين يَرِثُونَ الفردوس‏}‏ بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيماً لها وتأكيداً، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه‏.‏ وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار‏.‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ أنث الضمير لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة‏}‏ من خلاصة سلت من بين الكدر‏.‏ ‏{‏مِن طِينٍ‏}‏ متعلق بمحذوف لأنه صفة ل ‏{‏سلالة‏}‏ أو من بيانية أو بمعنى ‏{‏سلالة‏}‏ لأنها في معنى مسلولة فتكون ابتدائية كالأولى، والإِنسان آدم عليه الصلاة والسلام خلق من صفوة سلت من الطين، أو الجنس فإنهم خلقوا من سلالات جعلت نطفاً بعد أدوار‏.‏ وقيل المراد بالطين آدم لأنه خلق منه والسلالة نطفته‏.‏

‏{‏ثُمَّ جعلناه‏}‏ ثم جعلنا نسله فحذف المضاف‏.‏ ‏{‏نُّطْفَةٍ‏}‏ بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة، وتذكير الضمير على تأويل الجوهر أو المسلول أو الماء‏.‏ ‏{‏فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ‏}‏ مستقر حصين يعني الرحم، وهو في الأصل صفة للمستقر وصف به المحل للمبالغة كما عبر عنه بالقرار‏.‏

‏{‏ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً‏}‏ بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء‏.‏ ‏{‏فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً‏}‏ فصيرناها قطعة لحم‏.‏ ‏{‏فَخَلَقْنَا المضغة عظاما‏}‏ بأن صلبناها‏.‏ ‏{‏فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً‏}‏ مما بقي من المضغة أو مما أنبتنا عليها مما يصل إليها، واختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات والجمع لاختلافها في الهيئة والصلابة، وقرأ ابن عامر وأبو بكر على التوحيد فيهما اكتفاء باسم الجنس عن الجمع، وقرئ بإفراد أحدهما وجمع الآخر‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَر‏}‏ وهو صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخه فيه أو المجموع، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لما بين الخلقين من التفاوت، واحتج به أبو حنيفة على أن من غصب بيضة أفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر‏.‏ ‏{‏فَتَبَارَكَ الله‏}‏ فتعالى شأنه في قدرته وحكمته‏.‏ ‏{‏أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ المقدرين تقديراً فحذف المميز لدلالة ‏{‏الخالقين‏}‏ عليه‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ‏}‏ لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت دون اسم الفاعل وقد قرئ به‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ‏}‏ للمحاسبة والمجازاة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ‏}‏ سموات لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل وكل ما فوقه مثله فهو طريقه، أو لأنها طرق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها‏.‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق‏}‏ عن ذلك المخلوق الذي هو السموات أو عن جميع المخلوقات‏.‏ ‏{‏غافلين‏}‏ مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ‏}‏ بتقدير يكثر نفعه ويقل ضرره، أو بمقدار ما علمنا من صلاحهم‏.‏ ‏{‏فَأَسْكَنَّاهُ‏}‏ فجعلناه ثابتاً مستقراً‏.‏ ‏{‏فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ‏}‏ على إزالته بالإِفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه‏.‏ ‏{‏لقادرون‏}‏ كما كنا قادرين على إنزاله، وفي تنكير ‏{‏ذَهَابٍ‏}‏ إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإِيعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ‏}‏ بالماء‏.‏ ‏{‏جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب لَّكُمْ فِيهَا‏}‏ في الجنات‏.‏ ‏{‏فواكه كَثِيرَةٌ‏}‏ تتفكهون بها‏.‏ ‏{‏وَمِنْهَا‏}‏ ومن الجنات ثمارها وزروعها‏.‏ ‏{‏تَأْكُلُونَ‏}‏ تغذياً أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم‏:‏ فلان يأكل من حرفته، ويجوز أن يكون الضميران لل ‏{‏نَّخِيلٍ‏}‏ وال ‏{‏أعناب‏}‏ أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام تأكلونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَشَجَرَةً‏}‏ عطف على ‏{‏جنات‏}‏ وقرئت بالرفع على الإِبتداء أي‏:‏ ومما أنشأنا لكم به شجرة‏.‏ ‏{‏تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء‏}‏ جبل موسى عليه الصلاة والسلام بين مصر وأيلة، وقيل بفلسطين وقد يقال له طور سينين ولا يخلو من أن يكون الطور للجبل وسيناء اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منهما علم له كامرئ القيس ومنع صرفه للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السناء بالمد وهو الرفعة، أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلال كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف ‏{‏سَيْنَاء‏}‏ على قراءة الكوفيين والشامي ويعقوب فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء لا فعلال إذ ليس في كلامهم، وقرئ بالكسر والقصر‏.‏ ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ أي تنبت ملتبساً بالدهن ومستصحباً له، ويجوز أن تكون الباء صلة معدية ل ‏{‏تنبتُ‏}‏ كما في قولك‏:‏ ذهبت بزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب في رواية ‏{‏تنبِتُ‏}‏ وهو إما أن أنبت بمعنى نبت كقول زهير‏:‏

رَأَيْتُ ذوي الحَاجَاتِ عِنْدَ بُيُوتِهِم *** قَطِيناً لَهُمْ حَتَّى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ

أو على تقدير ‏{‏تنبتُ‏}‏ زيتونها ملتسباً بالدهن، وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتخرج الدهن وتنبت بالدهان‏.‏ ‏{‏وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ‏}‏ معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي‏:‏ تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنياً يدهن به ويسرج منه وكونه إداماً يصبغ فيه الخبز أي‏:‏ يغمس فيه للائتدام، وقرئ «وصباغ» كدباغ في دبغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً‏}‏ تعتبرون بحالها وتستدلون بها‏.‏ ‏{‏نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهَا‏}‏ من الألبان أو من العلف، فإن اللبن يتكون منه فمن للتبعيض أو للإِبتداء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب ‏{‏نُّسْقِيكُمْ‏}‏ بفتح النون‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ‏}‏ في ظهورها وأصوافها وشعورها‏.‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ فتنتفعون بأعيانها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَيْهَا‏}‏ وعلى الأنعام فإن منها ما يحمل عليه كالإِبل والبقر، وقيل المراد الإِبل لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة‏:‏

سَفِينَةُ بَرٍ تَحْتَ خَدّي زِمَامُهَا *** فيكون الضمير فيه كالضمير في ‏{‏وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ في البر والبحر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله‏}‏ إلى آخر القصص مسوق لبيان كفران الناس ما عدد عليهم من النعم المتلاحقة وما حاق بهم من زوالها‏.‏ ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ استئناف لتعليل الأمر بالعبادة، وقرأ الكسائي غيره بالجر على اللفظ‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه فيهلككم ويعذبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره وكفرانكم نعمه التي لا تحصونها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالَ الملؤا‏}‏ الأشراف‏.‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ‏}‏ لعوامهم‏.‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله‏}‏ أن يرسل رسولاً‏.‏ ‏{‏لأَنزَلَ ملائكة‏}‏ رسلاً‏.‏ ‏{‏مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى ءَابَآئِنَا الأَوَّلِينَ‏}‏ يعنون نوحاً عليه السلام أي ما سمعنا به أنه نبي، أو ما كلمهم به من الحث على عبادة الله سبحانه وتعالى ونفي إله غيره، أو من دعوى النبوة وذلك إما لفرط عنادهم أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ أي جنون ولأجله يقول ذلك ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ بِهِ‏}‏ فاحتملوه وانتظروا‏.‏ ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ لعله يفيق من جنونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ بعدما أيس من إيمانهم‏.‏ ‏{‏رَبّ انصرني‏}‏ بإهلاكهم إو بإنجاز ما وعدتهم من العذاب‏.‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ بدل تكذيبهم إياي أو بسببه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 36‏]‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏28‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا‏}‏ بحفظنا نحفظه أن تخطئ فيه أو يفسده عليك مفسد‏.‏ ‏{‏وَوَحْيِنَا‏}‏ وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع‏.‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ بالركوب أو نزول العذاب‏.‏ ‏{‏وَفَارَ التنور‏}‏‏.‏

روي أنه قيل لنوح إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك، فلما نبع الماء منه أخبرته امرأته فركب ومحله في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة‏.‏ وقيل عين وردة من الشام وفيه وجوه أخر ذكرتها في «هود»‏.‏ ‏{‏فاسلك فِيهَا‏}‏ فادخل فيها يقال سلك فيه وسلك غيره قال تعالى ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ‏}‏ مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين، وقرأ حفص «مِن كُلّ» بالتنوين أي من كل نوع زوجين واثنين تأكيد‏.‏ ‏{‏وَأَهْلَكَ‏}‏ وأهل بيتك أو من آمن معك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ‏}‏ أي القول من الله تعالى بإهلاكه لكفره، وإنما جيء بعلى لأن السابق ضار كما جيء باللام حيث كان نافعاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏{‏وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ‏}‏ بالدعاء لهم بالإنجاء‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ‏}‏ لا محالة لظلمهم بالإِشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف وقد أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله‏:‏

‏{‏فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي‏}‏ في السفينة أو في الأرض‏.‏ ‏{‏مُنزَلاً مُّبَارَكاً‏}‏ يتسبب لمزيد الخير في الدارين على قراءة أبي بكر، وقرئ «مُنزَلاً» بمعنى إنزالاً أو موضع إنزال‏.‏ ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين‏}‏ ثناء مطابق لدعائه أمره بأن يشفعه به مبالغة فيه وتوسلاً به إلى الإِجابة، وإنما أفرده بالأمر والمعلق به أن يستوي هو ومن معه إظهاراً لفضله وإشعاراً بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم فإنه يحيط بهم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ‏}‏ فيما فعل بنوح وقومه‏.‏ ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ يستدل بها ويعتبر أولو الاستبصار والاعتبار‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ‏}‏ لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، أو ممتحنين عبادنا بهذه الآيات ‏{‏وَإِنْ‏}‏ هي المخففة واللام هي الفارقة‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ‏}‏ هم عاد أو ثمود‏.‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ هو هود أو صالح، وإنما جعل القول موضع الإِرسال ليدل على أنه لم يأتهم من مكان غير مكانهم وإنما أوحي إليه وهو بين أظهرهم‏.‏ ‏{‏أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ تفسير لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ عذاب الله‏.‏

‏{‏وَقَالَ الملؤا مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ لعله ذكر بالواو لأن كلامهم لم يتصل بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف قول قوم نوح حيث استؤنف به، فعلى تقدير سؤال‏.‏

‏{‏وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الأخرة‏}‏ بلقاء ما فيها من الثواب والعقاب، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث ‏{‏وأترفناهم‏}‏ ونعمناهم ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ بكثرة الأموال والأولاد‏.‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ في الصِفة والحالة‏.‏ ‏{‏يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ‏}‏ تقرير للمماثلة و«ما» خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ‏}‏ فيما يأمركم به‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ حيث أذللتم أنفسكم، و‏{‏إِذَا‏}‏ جزاء للشرط وجواب للذين قَاوَلُوهُمْ من قومه‏.‏

‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما‏}‏ مجردة عن اللحوم والأعصاب‏.‏ ‏{‏أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ‏}‏ من الأجداث أو من العدم تارة أخرى إلى الوجود، و‏{‏أَنَّكُمْ‏}‏ تكرير للأول أكد به لما طال الفصل بينه وبين خبره، أو أنكم لمخرجون مبتدأ خبره الظرف المقدم، أو فاعل للفعل المقدر جواباً للشرط والجملة خبر الأول أي‏:‏ أنكم إخراجكم إذا متم، أو إنكم إذا متم وقع إخراجكم ويجوز أن يكون خبر الأول محذوفاً لدلالة خبر الثاني عليه لا أن يكون الظرف لأن اسمه جثة‏.‏ ‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ‏}‏ بعد التصديق أو الصحة‏.‏ ‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏ أو بعدما توعدون، واللام للبيان كما في ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل‏:‏ فما له هذا الاستبعاد‏؟‏ قالوا ‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏ وقيل ‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏ بمعنى البعد، وهو مبتدأ خبره ‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏، وقرئ بالفتح منوناً للتنكير، وبالضم منوناً على أنه جمع هيهة وغير منون تشبيهاً بقبل وبالكسر على الوجهين، وبالسكون على لفظ الوقف وبإبدال التاء هاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ أصله إن الحياة ‏{‏إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها حذراً عن التكرير وإشعاراً بأن تعينها مغن عن التصريح بها كقوله‏:‏

هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتهَا تَتَحَمَّلُ *** ومعناه لا حياة إلا هذه الحياة لأن ‏{‏إِن‏}‏ نافية دخلت على ‏{‏هِيَ‏}‏ التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فكانت مثل لا التي تنفي ما بعدها نفي الجنس‏.‏ ‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ يموت بعضنا ويولد بعض‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ بعد الموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ ما هو‏.‏ ‏{‏إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً‏}‏ فيما يدعيه من إرساله له وفيما يعدنا من البعث‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ بمصدقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انصرني‏}‏ عليهم وانتقم لي منهم‏.‏ ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ بسبب تكذيبهم إياي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ‏}‏ عن زمان قليل و«ما» صلة لتوكيد معنى القلة، أو نكرة موصوفة‏.‏ ‏{‏لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ على التكذيب إذا عاينوا العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ جبريل صاح عليهم صيحة هائلة تصدعت منها قلوبهم فماتوا، واستدل به على أن القوم قوم صالح‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ بالوجه الثابت الذي لا دافع له، أو بالعدل من الله كقولك فلان يقضي بالحق‏.‏ أو بالوعد الصدق‏.‏ ‏{‏فجعلناهم غُثَاءً‏}‏ شبههم في دمارهم بغثاء السيل وهو حميله كقول العرب‏:‏ سال به الوادي، لمن هلك‏.‏ ‏{‏فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ يحتمل الإِخبار والدعاء، وبعداً مصدر بعد إذا هلك، وهو من المصادر التي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها، واللام لبيان من دعي عليه بالبعد، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ‏}‏ هي قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا‏}‏ الوقت الذي حد لهلاكها و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة للاستغراق‏.‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ‏}‏ الأجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا‏}‏ متواترين واحداً بعد واحد من الوتر وهو الفرد، والياء بدل من الواو كتولج وتيقور والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالتنوين على أنه مصدر بمعنى المواترة وقع حالاً، وأماله حمزة وابن عامر والكسائي‏.‏ ‏{‏كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ‏}‏ إضافة الرسول مع الإِرسال إلى المرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإِرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم‏.‏ ‏{‏فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً‏}‏ في الإِهلاك‏.‏ ‏{‏وجعلناهم أَحَادِيثَ‏}‏ لم نبق منهم إلا حكايات يسمر بها، وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهياً‏.‏ ‏{‏فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 55‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا‏}‏ بالآيات التسع‏.‏ ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ وحجة واضحة ملزمة للخصم، ويجوز أن يراد به العصا وأفرادها لأنها أول المعجزات وأمها، تعلقت بها معجزات شتى‏:‏ كانقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة، وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربهما بها، وحراستها ومصيرها شمعة وشجرة خضراء مثمرة ورشاء ودلواً، وأن يراد به المعجزات وبالآيات الحجج وأن يراد بهما المعجزات فإنها آيات للنبوة وحجة بينة على ما يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَءِيْهِ فاستكبروا‏}‏ على الإِيمان والمتابعة‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً عالين‏}‏ متكبرين‏.‏

‏{‏فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏ ثنى البشر لأنه يطلق للواحد كقوله ‏{‏بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ كما يطلق للجمع كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً‏}‏ ولم يثن المثل لأنه في حكم المصدر، وهذه القصص كما نرى تشهد بأن قصارى شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم لما بينهم من المماثلة في الحقيقة وفساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمل، فإن النفوس البشرية وإن تشاركت في أصل القوى والإِدراك لكنها متباينة الأقدام فيهما، وكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا يعود عليهم الفكر برادة، يمكن أن يكون في طرف الزيادة أغنياء عن التفكر والتعلم في أكثر الأشياء وأغلب الأحوال، فيدركون ما لا يدرك غيرهم ويعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم، وإليه أشار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ ‏{‏وَقَوْمُهُمَا‏}‏ يعني بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏لَنَا عابدون‏}‏ خادمون منقادون كالعباد‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين‏}‏ بالغرق في بحر قلزم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ التوراة‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ لعل بني إسرائيل، ولا يجوز عود الضمير إلى ‏{‏فِرْعَوْنُ‏}‏ وقومه لأن التوراة نزلت بعد إغراقهم‏.‏ ‏{‏يَهْتَدُونَ‏}‏ إلى المعارف والأحكام‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً‏}‏ بولادتها إياه من غير مسيس فالآية أمر واحد مضاف إليهما، أو ‏{‏جَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ‏}‏ آية بأن تكلم في المهد وظهرت منه معجزات أخر ‏{‏وَأُمَّهُ‏}‏ آية بأن ولدت من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها‏.‏ ‏{‏وءاويناهمآ إِلَى رَبْوَةٍ‏}‏ أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر فإن قراها على الربى، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء وقرئ «رُبَاوةَ» بالضم والكسر‏.‏ ‏{‏ذَاتِ قَرَارٍ‏}‏ مستقر من الأرض منبسطة‏.‏ وقيل ذات ثمار وزروع فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها‏.‏ ‏{‏وَمَعِينٍ‏}‏ وماء معين ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الابعاد في الشيء، أو من الماعون وهو المنفعة لأنه نفاع، أو مفعول من عانه إذا أدركه بعينه لأنه لظهوره مدرك بالعيون وصف ماءها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏ نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أن كلاً منهم خوطب به في زمانه، فيدخل تحته عيسى دخولاً أولياً ويكون ابتداء كلام تنبيهاً على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجاً على الرهبانية في رفض الطيبات، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا‏.‏

وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات‏.‏ وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل‏.‏ ‏{‏واعملوا صالحا‏}‏ فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم‏.‏ ‏{‏إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ فأجازيكم عليه‏.‏

‏{‏وَإِنَّ هذه‏}‏ أي ولأن ‏{‏هذه‏}‏ والمعلل به ‏{‏فاتقون‏}‏، أو واعلموا أن هذه، وقيل إنه معطوف على ‏{‏مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ وقرأ ابن عامر بالتخفيف والكوفيون بالكسر على الاستئناف‏.‏ ‏{‏أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ملتكم ملة واحدة أي متحدة في الاعتقاد وأصول الشرائع، أو جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإِيمان والتوحيد في العبادة ونصب ‏{‏أُمَّةً‏}‏ على الحال‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون‏}‏ في شق العصا ومخالفة الكلمة‏.‏

‏{‏فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ‏}‏ فتقطعوا أمر دينهم جعلوه أدياناً مختلفة، أو فتفرقوا وتحزبوا وأمرهم منصوب بنزع الخافض أو التمييز، والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها‏.‏ ‏{‏زُبُراً‏}‏ قطعاً جمع زبور الذي بمعنى الفرقة ويؤيده القراءة بفتح الباء فإنه جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من الواو، أو مفعول ثان ل ‏{‏فَتَقَطَّعُواْ‏}‏ فإنه متضمن معنى جعل‏.‏ وقيل كتباً من زبرت الكتاب فيكون مفعولاً ثانياً، أو حالاً من أمرهم على تقدير مثل كتب، وقرئ بتخفيف الباء كرسل في ‏{‏رُسُلُ‏}‏‏.‏ ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ‏}‏ من المتحزبين‏.‏ ‏{‏بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ من الدين‏.‏ ‏{‏فَرِحُونَ‏}‏ معجبون معتقدون أنهم على الحق‏.‏

‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ‏}‏ في جهالتهم شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها أو لاعبون بها، وقرئ في «غمراتهم»‏.‏ ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ إلى أن يقتلوا أو يموتوا‏.‏

‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ‏}‏ أن ما نعطيهم ونجعله لهم مدداً، ‏{‏مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ بيان لما وليس خبراً له، فإنه غير معاتب عليه وإنما المعاتب عليه اعتقادهم أن ذلك خير لهم خبره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات‏}‏ والراجع محذوف والمعنى‏:‏ أيحسبون أن الذي نمدهم به نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم ‏{‏بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ بل هم كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا فيه فيعلموا أن ذلك الإِمداد استدراجٍ لا مسارعة في الخير، وقرئ «يمدهم» على الغيبة وكذلك «يسارع» و«يسرع» ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به و«يسارع» مبنياً للمفعول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ‏}‏ من خوف عذابه‏.‏ ‏{‏مُشْفِقُونَ‏}‏ حذرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ‏}‏ المنصوبة والمنزلة‏.‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ بتصديق مدلولها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ‏}‏ شركاً جلياً ولا خفياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ‏}‏ يعطون ما أعطوه من الصدقات، وقرئ «يأتون ما أتوا» أي يفعلون ما فعلوا من الطاعات‏.‏ ‏{‏وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ خائفة أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذ به‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون‏}‏ لأن مرجعهم إليه، أو من أن مرجعهم إليه وهو يعلم ما يخفي عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك يسارعون فِي الخيرات‏}‏ يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيوية الموعودة على صالح الأعمال بالمبادرة إليها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتاهم الله ثَوَابَ الدنيا‏}‏ فيكون إثباتاً لهم ما نفي عن أضدادهم‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لَهَا سابقون‏}‏ لأجلها فاعلون السبق أو سابقون الناس إلى الطاعة أو الثواب أو الجنة، أو سابقونها أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ لَهَا عاملون‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ قدر طاقتها يريد به التحريض على ما وصف به الصالحين وتسهيله على النفوس‏.‏ ‏{‏وَلَدَيْنَا كِتَابٌ‏}‏ يريد به اللوح أو صحيفة الأعمال‏.‏ ‏{‏يَنطِقُ بالحق‏}‏ بالصدق لا يوجد فيه ما يخالف الواقع‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بزيادة عقاب أو نقصان ثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ قلوب الكفرة‏.‏ ‏{‏فِي غَمْرَةٍ‏}‏ في غفلة غامرة لها‏.‏ ‏{‏مّنْ هذا‏}‏ من الذي وصف به هؤلاء أو من كتاب الحفظة‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك‏}‏ متجاوزة لما وصفوا به أو متخطية عما هم عليه من الشرك‏.‏ ‏{‏هُمْ لَهَا عاملون‏}‏ معتادون فعلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ‏}‏ متنعميهم‏.‏ ‏{‏بالعذاب‏}‏ يعني القتل يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ‏}‏ فالجآر الصراخ بالاستغاثة، وهو جواب الشرط والجملة مبتدأ بعد حتى ويجوز أن يكون الجواب‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَجْئَرُواْ اليوم‏}‏ فإنه مقدر بالقول أي قيل لهم لا ‏{‏لاَ تَجْئَرُواْ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ تعليل للنهي أي لا تجأروا فإنه لا ينفعكم إذ لا تمنعون منا، أو لا يلحقكم نصر ومعونة من جهتنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ ءَايَتِي تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ‏}‏ تعرضون مدبرين عن سماعها وتصديقها والعمل بها، والنكوص الرجوع قهقرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ‏}‏ الضمير للبيت وشهوة استكبارهم وافتخارهم بأنه قوامه أغنت عن سبق ذكره، أو لآياتي فإنها بمعنى كتابي والباء متعلقة ب ‏{‏مُسْتَكْبِرِينَ‏}‏ لأنه بمعنى مكذبين، أو لأن استكبارهم على المسلمين حدث بسبب استماعه أو بقوله‏:‏ ‏{‏سامرا‏}‏ أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وهو في الأصل مصدر جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة، وقرئ «سمراً» جمع سامر ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ من الهجر بالفتح إما بمعنى القطيعة أو الهذيان، أي تعرضون عن القرآن أو تهذون في شأنه أو الهجر بالضم أي الفحش، ويؤيد الثاني قراءة نافع ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ من أهجر وقرئ ‏{‏تَهْجُرُونَ‏}‏ على المبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول‏}‏ أي القرآن ليعلموا أنه الحق من ربهم بإعجاز لفظه ووضوح مدلوله‏.‏ ‏{‏أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الأولين‏}‏ من الرسول والكتاب، أو من الأمن من عذاب الله تعالى فلم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون كإسماعيل وأعقابه فآمنوا به وبكتابه ورسله وأطاعوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ‏}‏ بالأمانة والصدق وحسن الخلق وكمال العلم مع عدم التعلم إلى غير ذلك مما هو صفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ دعواه لأحد هذه الوجوه إذ لا وجه له غيرها، فإن إنكار الشيء قطعاً أو ظناً إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص أو بحث عما يدل عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 77‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏71‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ‏(‏74‏)‏ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏75‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏76‏)‏ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ فلا يبالون بقوله وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أرجحهم عقلاً وأدقهم نظراً‏.‏ ‏{‏بَلْ جَاءهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارهون‏}‏ لأنه يخالف شهواتهم وأهواءهم فلذلك أنكروه، وإنما قيد الحكم بالأكثر لأنه كان منهم من ترك الإِيمان استنكافاً من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم فكرته لا كراهة للحق‏.‏

‏{‏وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ بأن كان في الواقع آلهة شتى‏.‏ ‏{‏لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ كما سبق تقريره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ وقيل لو اتبع الحق أهواءهم وانقلب باطلاً لذهب ما قام به العالم فلم يبق، أو لو اتبع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أهواءهم وانقلب شركاً لجاء الله بالقيامة وأهلك العالم من فرط غضبه، أو لو اتبع الله أهواءهم بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك والمعاصي لخرج عن الألوهية ولم يقدر أن يمسك السموات والأرض وهو على أصل المعتزلة‏.‏ ‏{‏بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ‏}‏ بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو صيتهم، أو الذكر الذي تمنوه بقولهم ‏{‏لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين‏}‏ وقرئ «بذكراهم»‏.‏ ‏{‏فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ لا يلتفتون إليه‏.‏

‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ‏}‏ قيل إنه قسيم قوله ‏{‏أَم بِهِ جِنَّةٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏خَرْجاً‏}‏ أجراً على أداء الرسالة‏.‏ ‏{‏فَخَرَاجُ رَبّكَ‏}‏ رزقه في الدنيا أو ثوابه في العقبى‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ لسعته ودوامه ففيه مندوحة لك عن عطائهم والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك، والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله إياه، وقرأ ابن عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجاً فخراج» للمزاوجة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرزقين‏}‏ تقرير لخيرية خراجه تعالى‏.‏

‏{‏وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ تشهد العقول السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له، واعلم أنه سبحانه ألزمهم الحجة وأزاح العلة في هذه الآيات بأن حصر أقسام ما يؤدي إلى الإِنكار والاتهام وبين انتفاءها ما عدا كراهة الحق وقلة الفطنة‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة عَنِ الصراط‏}‏ عن الصراط السوي‏.‏ ‏{‏لناكبون‏}‏ لعادلون عنه فإن خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحق وسلوك طريقه‏.‏

‏{‏وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرٍّ‏}‏ يعني القحط‏.‏ ‏{‏لَّلَجُّواْ‏}‏ لثبتوا واللجاج التمادي في الشيء‏.‏ ‏{‏فِي طغيانهم‏}‏ إفراطهم في الكفر والاستكبار عن الحق وعداوة الرسول والمؤمنين‏.‏ ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ عن الهدى، روي أنهم قحطوا حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال‏:‏ بلى فقال‏:‏ قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب‏}‏ يعني القتل يوم بدر‏.‏ ‏{‏فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ‏}‏ بل أقاموا على عتوهم واستكبارهم، واستكان استفعل من الكون لأن المفتقر انتقل من كون إلى كون أو افتعل من السكون أشبعت فتحته‏.‏ ‏{‏وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ وليس من عادتهم التضرع وهو استشهاد على ما قبله‏.‏

‏{‏حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ يعني الجوع فإنه أشد من القتل والأسر‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏ متحيرون آيسون من كل خير حتى جاءك أعتاهم يستعطفك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار‏}‏ لتحسوا بها ما نصب من الآيات‏.‏ ‏{‏والأفئدة‏}‏ لتتفكروا فيها وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية‏.‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ تشكرونها شكراً قليلاً لأن العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله، والإذعان لمانحها من غير إشراك و‏{‏مَا‏}‏ صلة للتأكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض‏}‏ خلقكم وبثكم فيها بالتناسل‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُحيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف اليل والنهار‏}‏ ويختص به تعاقبهما لا يقدر على غيره فيكون رداً لنسبته إلى الشمس حقيقة أو لأمره وقضائه تعاقبهما، أو انتقاص أحدهما وازدياد الآخر‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها وأن البعث من جملتها، وقرئ بالياء على أن الخطاب السابق لتغليب المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 91‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏81‏)‏ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏82‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏84‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏86‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏87‏)‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏88‏)‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ‏(‏89‏)‏ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏90‏)‏ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ‏}‏ أي كفار مكة‏.‏ ‏{‏مِثْلَ مَا قَالَ الأولون‏}‏ آباؤهم ومن دان بدينهم‏.‏

‏{‏قَالُواْ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ استبعاداً ولم يتأملوا أنهم كانوا قبل ذلك أيضاً تراباً فخلقوا‏.‏

‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ إلا أكاذيبهم التي كتبوها، جمع أسطورة لأنه يستعمل فيما يتلى به كالأعاجيب والأضاحيك‏.‏ وقيل جمع أسطار جمع سطر‏.‏

‏{‏قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ إن كنتم من أهل العلم أو من العالمين بذلك، فيكون استهانة بهم وتقريراً لفرط جهالتهم حتى جهلوا مثل هذا الجلي الواضح إلزاماً بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنكاره، ولذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا فقال‏.‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ لأن العقل الصريح قد اضطرهم بأدنى نظر إلى الإِقرار بأنه خالقها‏.‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ أي بعد ما قالوه‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتعلمون أن من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إيجادها ثانياً، فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته‏.‏ وقرئ «تتذكرون» على الأصل‏.‏

‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم‏}‏ فإنها أعظم من ذلك‏.‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه وفيما بعده على ما يقتضيه لفظ السؤال‏.‏ ‏{‏قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ عقابه فلا تشركوا به بعض مخلوقاته ولا تنكروا قدرته على بعض مقدوراته‏.‏

‏{‏قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ملكه غاية ما يمكن وقيل خزائنه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يُجْيِرُ‏}‏ يغيث من يشاء ويحرسه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ‏}‏ ولا يغاث أحد ولا يمنع منه، وتعديته بعلى لتضمين معنى النصرة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ‏}‏ فمن أين تخدعون فتصرفون عن الرشد مع ظهور الأمر وتظاهر الأدلة‏.‏

‏{‏بَلْ أتيناهم بالحق‏}‏ من التوحيد والوعد بالنشور‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ حيث أنكروا ذلك‏.‏

‏{‏مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ‏}‏ لتقدسه عن مماثلة أحد‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ‏}‏ يساهمه في الألوهية‏.‏ ‏{‏إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ جواب محاجتهم وجزاء شرط حذف لدلالة ما قبله عليه، أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين وظهر بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا، فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإِجماع والاستقراء وقيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد‏.‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من الولد والشريك لما سبق من الدليل على فساده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ خبر مبتدأ محذوف وقد جره ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص على الصفة، وهو دليل آخر على نفي الشريك بناء على توافقهم في أنه المنفرد بذلك ولهذا رتب عليه‏.‏ ‏{‏فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ بالفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنّي‏}‏ إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون للتأكيد‏.‏ ‏{‏مَا يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين‏}‏ قريناً لهم في العذاب، وهو إما لهضم النفس أو لأن شؤم الظلمة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ عن الحسن أنه تعالى أخبر نبيه عليه السلام أنه له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها فأمره بهذا الدعاء وتكرير النداء، وتصدير كل واحد من الشرط والجزاء به فضل تضرع وجؤار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون‏}‏ لكنا نؤخره علمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون، أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، ولعله رد لإِنكارهم الموعود واستعجالهم له استهزاء به‏.‏ وقيل قد أراه‏:‏ وهو قتل بدر أو فتح مكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة‏}‏ وهو الصفح عنها والإِحسان في مقابلتها لكن بحيث لم يؤد إلى وهن في الدين‏.‏ وقيل هي كلمة التوحيد والسيئة الشرك‏.‏ وقيل هو الأمر بالمعروف والسيئة المنكر وهو أبلغ من أدفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل‏.‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ‏}‏ بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف حالك وأقدر على جزائهم فوكل إلينا أمرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين‏}‏ وساوسهم، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض، شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدواب على المشي والجم للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد المضاف إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ‏}‏ يحوموا حولي في شيء من الأحوال، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل لأنها أحرى الأحوال بأن يخاف عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ متعلق ب ‏{‏يَصِفُونَ‏}‏، وما بينهما اعتراض لتأكيد الإِغضاء بالاستعاذة بالله من الشيطان أن يزله عن الحلم ويغريه على الانتقام أو بقوله ‏{‏إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ تحسراً على ما فرط فيه من الإِيمان والطاعة لما اطلع على الأمر‏.‏ ‏{‏رَبِّ ارجعون‏}‏ ردوني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب‏.‏ وقيل لتكرير قوله ارجعني كما قيل في قفا وأطرقا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 110‏]‏

‏{‏لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏100‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏ أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏لَعَلّي أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ‏}‏ في الإِيمان الذي تركته أي لعلي آتي الإِيمان وأعمل فيه، وقيل في المال أو في الدنيا‏.‏ وعنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ قال إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا، فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوماً إلى الله تعالى، وأما الكافر فيقول رب ارجعون ‏"‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع من طلب الرجعة واستبعاد لها‏.‏ ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ‏}‏ معنى قوله ‏{‏رَبِّ ارجعون‏}‏ الخ، والكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض‏.‏ ‏{‏هُوَ قَائِلُهَا‏}‏ لا محالة لتسلط الحسرة عليه‏.‏ ‏{‏وَمِن وَرَائِهِمْ‏}‏ أمامهم والضمير للجماعة‏.‏ ‏{‏بَرْزَخٌ‏}‏ حائل بينهم وبين الرجعة‏.‏ ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ يوم القيامة، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة‏.‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور‏}‏ لقيام الساعة والقراءة بفتح الواو وبه وبكسر الصاد يؤيد أن ‏{‏الصور‏}‏ أيضاً جمع الصورة‏.‏ ‏{‏فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ‏}‏ تنفعهم لزوال التعاطف والتراحم من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو يفتخرون بها‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ كما يفعلون اليوم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ولا يسأل بعضهم بعضاً لاشتغاله بنفسه، وهو لا يناقض قوله ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ لأنه عند النفخة وذلك بعد المحاسبة، أو دخول أهل الجنة الجنة والنار النار‏.‏

‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏ موزونات عقائده وأعماله، أي فمن كانت له عقائد وأعمال صالحة يكون لها وزن عند الله تعالى وقدر‏.‏ ‏{‏فأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بالنجاة والدرجات‏.‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ موازينه‏}‏ ومن لم يكن له ما يكون له وزن، وهم الكفار لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏‏.‏ ‏{‏فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ غبنوها حيث ضيعوا زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها‏.‏ ‏{‏فِي جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ بدل من الصلة أو خبر ثان «لأولئك»‏.‏

‏{‏تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار‏}‏ تحرقها واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً‏.‏ ‏{‏وَهُمْ فِيهَا كالحون‏}‏ من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان، وقرئ «كلحون»‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ ءاياتي تتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ على إضمار القول أي يقال لهم ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ تأنيب وتذكير لهم بما استحقوا هذا العذاب لأجله‏.‏

‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ ملكتنا بحيث صارت أحوالنا مؤدية إلى سوء العاقبة، وقرأ حمزة والكسائي «شقاوتنا» بالفتح كالسعادة وقرئ بالكسر كالكتابة‏.‏ ‏{‏وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ‏}‏ عن الحق‏.‏

‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا‏}‏ من النار‏.‏ ‏{‏فَإِنْ عُدْنَا‏}‏ إلى التكذيب‏.‏ ‏{‏فَإِنَّا ظالمون‏}‏ لأنفسنا‏.‏

‏{‏قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا‏}‏ اسكتوا سكوت هوان في النار فإنها ليست مقام سؤال من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُكَلِّمُونِ‏}‏ في رفع العذاب أو لا تكلمون رأساً‏.‏

قيل إن أهل النار يقولون ألف سنة‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا‏}‏ فيجابون ‏{‏حَقَّ القول مِنْي‏}‏ فيقولون ألفاً ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين‏}‏ فيجابون ‏{‏ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ‏}‏ فيقولون ألفاً ‏{‏يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ فيجابون ‏{‏إِنَّكُمْ ماكثون‏}‏ فيقولون ألفاً ‏{‏رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ فيجابون ‏{‏أو لم تكونوا أقسمتم من قبل‏}‏ فيقولون ألفاً ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا‏}‏ فيجابون ‏{‏أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ‏}‏ فيقولون ألفاً ‏{‏رَبّ ارجعون‏}‏ فيجابون ‏{‏اخسَئُواْ فِيهَا‏}‏ ثم لا يكون لهم فيها إلا زفير وشهيق وعواء‏.‏

‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن الشأن وقرئ بالفتح أي لأنه‏.‏ ‏{‏كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي‏}‏ يعني المؤمنين، وقيل الصحابة وقيل أهل الصفة‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏‏.‏

‏{‏فاتخذتموهم سِخْرِيّاً‏}‏ هزواً وقرأ نافع وحمزة والكسائي هنا وفي «ص» بالضم، وهما مصدر سخر زيدت فيهما ياء النسب للمبالغة، وعند الكوفيين المكسور بمعنى الهزء والمضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية‏.‏ ‏{‏حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي‏}‏ من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم فلم تخافوني في أوليائي‏.‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ‏}‏ استهزاء بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ على أذاكم‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون‏}‏ فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به، وهو ثاني مفعولي ‏{‏جَزَيْتُهُمُ‏}‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالكسر استئنافاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله أو الملك المأمور بسؤالهم، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار‏.‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض‏}‏ أحياء أو أمواتاً في القبور‏.‏ ‏{‏عَدَدَ سِنِينَ‏}‏ تمييز لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ‏}‏ استقصاراً لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم في النار، أو لأنها كانت أيام سرورهم وأيام السرور قصار، أو لأنها منقضية والمنقضي في حكم المعدوم‏.‏ ‏{‏فَاسْأَلِ العآدين‏}‏ الذين يتمكنون من عد أيامها إن أردت تحقيقها فإنا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكرها وإحصائها، أو الملائكة الذين يعدون أعمار الناس ويحصون أعمالهم‏.‏ وقرئ ‏{‏العادين‏}‏ بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون ما نقول، و‏{‏العاديين‏}‏ أي القدماء المعمرين فإنهم أيضاً يستقصرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ وفي قراءة حمزة والكسائي «قل»‏.‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ تصديق لهم في مقالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً‏}‏ توبيخ على تغافلهم، و‏{‏عَبَثاً‏}‏ حال بمعنى عابثين أو مفعول له أي‏:‏ لم نخلقكم تلهياً بكم وإنما خلقناكم لنتعبدكم ونجازيكم على أعمالكم وهو كالدليل على البعث‏.‏ ‏{‏وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ‏}‏ معطوف على ‏{‏أَنَّمَا خلقناكم‏}‏ أو ‏{‏عَبَثاً‏}‏، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏فتعالى الله الملك الحق‏}‏ الذي يحق له الملك مطلقاً فإن من عداه مملوك بالذات مالك بالعرض من وجه دون وجه وفي حال دون حال‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ فإن ما عداه عبيد له‏.‏ ‏{‏رَبُّ العرش الكريم‏}‏ الذي يحيط بالأجرام وينزل منه محكمات الأقضية والأحكام، ولذلك وصفه بالكرم أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه صفة الرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ‏}‏ يعبده إفراداً أو إشراكاً‏.‏ ‏{‏لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ‏}‏ صفة أخرى لإلها لازمة له فإن الباطل لا برهان به، جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيهاً على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلاً عما دل الدليل على خلافه، أو اعتراض بين الشرط والجزاء لذلك‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ فهو مجاز له مقدار ما يستحقه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون‏}‏ إن الشأن وقرئ بالفتح على التعليل أو الخبر أي حسابه عدم الفلاح‏.‏ بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين وختمها بنفي الفلاح عن الكافرين، ثم أمر رسوله بأن يستغفره ويسترحمه فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الرحمين‏}‏‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت ‏"‏ وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏ لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون‏}‏ حتى ختم العشر ‏"‏ وروي «أن أولها وآخرها من كنوز الجنة، من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح»‏.‏

سورة النور

مدنية وهي أربع وستون آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏سُورَةٌ‏}‏ أي هذه سورة أو فيما أوحينا إليك سورة‏.‏ ‏{‏أنزلناها‏}‏ صفتها ومن نصبها جعله مفسراً لناصبها فلا يكون له محل إلا إذا قدر اتل أو دونك نحوه ‏{‏وفرضناها‏}‏ وفرضنا ما فيها من الأحكام، وشدده ابن كثير وأبو عمرو لكثرة فرائضها أو المفروض عليهم، أو للمبالغة في إيجابها‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ واضحات الدلالة ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتتقون المحارم وقرئ بتخفيف الذال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الزانية والزاني‏}‏ أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمها وهو الجلد، ويجوز أن يرفعا بالإِبتداء والخبر‏:‏ ‏{‏فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ‏}‏ والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الذي، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء، وإنما قدم ‏{‏الزانية‏}‏ لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإِضافة إليها، والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم، وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة لقوله عليه الصلاة والسلام «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخاً مقبولاً أو مردوداً، وله في العبد ثلاثة أقوال‏.‏ والإِحصان‏:‏ بالحرية والبلوغ والعقل والإِصابة في نكاح صحيح، واعتبرت الحنفية الإِسلام أيضاً وهو مردود برجمه عليه الصلاة والسلام يهوديين، ولا يعارضه «من أشرك بالله فليس بمحصن» إذ المراد بالمحصن الذي يقتص له من المسلم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ‏}‏ رحمة‏.‏ ‏{‏فِي دِينِ الله‏}‏ في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أن تسامحوا فيه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر‏}‏ فإن الإِيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه، وهو من باب التهييج‏.‏ ‏{‏وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين‏}‏ زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب، وال ‏{‏طَائِفَةٌ‏}‏ فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واحداً واثنان، والمراد جمع يحصل به التشهير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ‏}‏ إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق‏.‏ وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك‏.‏ لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن، لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني‏.‏ ‏{‏وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين‏}‏ لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة‏.‏ وقيل النفي بمعنى النهي، وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ‏}‏ فإنه يتناول المسافحات، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال‏:‏ «أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَرْمُونَ المحصنات‏}‏ يقذفونهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإِحصان، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً‏}‏ والقذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن، والإِحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإِسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى، وتخصيص ‏{‏المحصنات‏}‏ لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الآداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافاً لأبي حنيفة، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً‏}‏ أي شهادة كانت لأنه مفتر، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافاً لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جواباً للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده‏.‏ ‏{‏أَبَدًا‏}‏ ما لم يتب، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره‏.‏ ‏{‏وأولئك هُمُ الفاسقون‏}‏ المحكوم بفسقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ عن القذف‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ‏}‏ أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف، والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل، لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء، وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم، وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ علة للاستثناء‏.‏

‏{‏والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏ نزلت في هلال بن أمية رأى رجلاً على فراشه، وأنفسهم بدل من شهداء أو صفة لهم على أن إلا بمعنى غير‏.‏ ‏{‏فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات‏}‏ فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم، و‏{‏أَرْبَعُ‏}‏ نصب على المصدر وقد رفعه حمزة والكسائي وحفص على أنه خبر «شهادة»‏.‏ ‏{‏بالله‏}‏ متعلق بشهادات لأنها أقرب وقيل بشهادة لتقدمها‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏ أي فيما رماها به من الزنا، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنه باللام تأكيداً‏.‏

‏{‏والخامسة‏}‏ والشهادة الخامسة‏.‏ ‏{‏أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين‏}‏ في الرمي هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ المتلاعنان لا يجتمعان أبداً ‏"‏ وتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد أن تعرض له فيه وثبوت حد الزنا على المرأة لقوله‏.‏

‏{‏وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب‏}‏ أي الحد‏.‏ ‏{‏أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين‏}‏ فيما رماني به‏.‏

‏{‏والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصادقين‏}‏ في ذلك ورفع الخامسة بالإِبتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد، ونصبها حفص عطفاً على ‏{‏أَرْبَعُ‏}‏‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب ‏{‏أَن لَّعْنَةُ الله‏}‏ و‏{‏أَنَّ غَضَبَ الله‏}‏ بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من ‏{‏غَضَبَ‏}‏ ورفع الهاء من اسم ‏{‏الله‏}‏، والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ‏}‏ متروك الجواب للتعظيم أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة‏.‏